بقلم : حوران حم
بعد المجازر الدامية التي شهدتها منطقتا الساحل وجبل العرب، تلوح في الأفق ملامح مرحلة جديدة في مسار الأزمة السورية، مرحلة تفيض بالتوتر والمخاطر، خصوصاً على المكونات التي لا تزال تُصرّ على الحفاظ على استقلال قرارها السياسي، وعلى رأسها الكرد. السؤال اليوم لم يعد ما إذا كان الشرع سيواجه الكرد، بل متى وكيف، وماذا سيكون موقف القوى الإقليمية والدولية إذا ما قرر إعادة سيناريو الدم والنار في المناطق الكردية؟
زيارة توماس براك إلى بيروت: جرس إنذار أم رسالة تهديد؟
زيارة رجل الأعمال الأمريكي اللبناني الأصل توماس براك إلى لبنان لا يمكن فصلها عن تصاعد التوتر في سوريا. فبراك، المقرّب من دوائر صنع القرار في واشنطن، لا يزور الشرق الأوسط لمجرد المجاملة. الزيارة تأتي، وفق ما يُتداول في الأوساط السياسية، لتوصيل رسالة واضحة إلى الأطراف الفاعلة في لبنان وسوريا: “التسوية قادمة، وأي تعطيل أو مواجهات جديدة ستكون لها عواقب وخيمة.”
هل الرسالة موجهة فقط لحزب الله، أم تتعدى ذلك إلى كافة الأطراف، بما فيها الكرد؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة، لكن الواضح أن واشنطن ليست بعيدة عن المشهد.
موقف إسرائيل: بين المراقبة والتدخل المحسوب
تل أبيب، التي اعتادت مراقبة التطورات السورية عن كثب، قد تجد نفسها مضطرة لتجاوز خطوط الحذر إذا ما قرر الشرع التصعيد ضد الكرد. فالتجربة أثبتت أن إسرائيل تتحرك كلما شعرت بأن ميزان القوى في سوريا قد ينقلب لصالح محور يعاديها. ومناطق الكرد، التي لطالما بقيت بعيدة عن العداء لإسرائيل، قد تصبح في لحظة ما، “منطقة تماس” جديدة تفرض على إسرائيل خيارات غير مسبوقة.
الموقف العربي: انقسام وتردد تحت عباءة الواقعية
الموقف العربي ما زال يتسم بالتناقض. فبعض العواصم ترى في الكرد قوة موازنة للمحور الإيراني-الشرعي في سوريا، لكنها في الوقت ذاته تتحفّظ على أي مشروع كردي قد يُنظر إليه كمقدمة لتقسيم سوريا. دول الخليج تحديداً تتعامل بحذر، وتراقب بقلق ما يجري، لكنها لا تُبدي استعداداً للذهاب بعيداً في دعم الكرد سياسياً أو ميدانياً.
أما القاهرة، التي تسعى للعب دور توافقي، فقد تحاول الدفع نحو حوار وطني جامع، لكنها لن تتحدى الإرادة الإقليمية والدولية الكبرى بمفردها.
الموقف التركي: ازدواجية ومخاوف أمنية مزمنة
أما أنقرة، فهي في موقع بالغ الحساسية. فتركيا تنظر إلى أي تحرك كردي في سوريا من زاوية أمنية خالصة، وتعتبره تهديداً لوحدة أراضيها. لكنها في الوقت ذاته لا ترغب في اندلاع موجة عنف جديدة على حدودها الجنوبية، خاصة إذا قاد ذلك إلى موجة نزوح أو إلى تدخلات روسية/إيرانية جديدة.
القيادة التركية، التي تمر بمرحلة إعادة تموضع استراتيجي، قد تلتزم الصمت الميداني مؤقتاً، لكنها لن تتردد في استخدام ورقة المعارضة السورية إذا رأت أن “الإدارة الكردية” تقترب من الخطوط الحمراء.
إقليم كردستان أمام لحظة اختبار
ربما سيكون الموقف الكردي الإقليمي هو الأكثر حساسية. فإقليم كردستان العراق، الذي لطالما تبنّى مواقف حذرة في ما يخص كرد سوريا، سيُواجه لحظة مفصلية في حال تكرار سيناريو الساحل وجبل العرب في كردستان سوريا. هل سيكتفي الإقليم بالتنديد والدعوة إلى التهدئة؟ أم سيضطر، تحت ضغط الرأي العام الكردي، إلى خطوات سياسية أو دبلوماسية أكثر وضوحاً؟
الإقليم يعلم جيداً أن أي سكوت عن استهداف الكرد في سوريا قد ينعكس سلباً على عمقه الاجتماعي والسياسي داخلياً، كما أن أي تدخل غير محسوب قد يجلب عليه ضغوطاً إقليمية ودولية لا يحتملها.
الشرع وفقدان المصداقية الدولية
المجازر التي شهدها الساحل وجبل العرب، خصوصاً مع توثيقها من قبل منظمات مستقلة، أسقطت القناع الأخير عن خطاب أحمد الشرع، الذي ادّعى منذ وصوله إلى السلطة تمثيل “سوريا الجديدة”، وها هو اليوم يُثبت أنه لا يختلف كثيراً عن أسلافه من حيث القمع وتكتيكات الإبادة الجماعية.
بهذا السقوط الأخلاقي، تفتح الأزمة السورية باباً جديداً أمام المجتمع الدولي، الذي لم يعد قادراً على التعامل مع الشرع كشريك في مشروع حل سياسي مستدام.
الكرد أمام امتحان العقلانية والحقوق
رغم الأخطار المحدقة، يبقى السؤال الأهم: هل يستطيع الكرد تخطي هذه المرحلة بعقلانية، دون أن يقدّموا التنازلات التي تمس جوهر حقوقهم القومية والسياسية؟
الإجابة ليست سهلة، لكن ما أثبتته التجربة هو أن الكرد يمتلكون أدوات الصمود والتفاوض في آن معاً. فهم ليسوا طرفاً متهوراً ولا تابعاً، وقد أظهروا مراراً قدرة على المناورة دون الانصياع الكامل لأي محور.
الكرة اليوم في ملعب القيادة الكردية: إما أن تلتقط اللحظة، وتبني تحالفات ذكية مع الأطراف السورية والدولية المؤمنة بالتغيير، أو أن تُترك وحدها في مواجهة قدر جديد لا يُحمد عقباه.
الحاجة إلى مشروع جديد لسوريا
كل ما حدث ويحدث، من القمع إلى المجازر، ومن العجز الدولي إلى التخبط الإقليمي، يفرض طرحاً واضحاً: لا يمكن بناء سوريا القادمة على ذات الأسس القديمة.
لا بد من مشروع جديد، يعترف بتعددية سوريا القومية والدينية والمذهبية، ويضمن حق المكونات – ومنها الكرد – في تقرير مصيرها، ضمن عقد اجتماعي ديمقراطي عصري يقطع مع ثقافة الإقصاء.
فإن ما بعد مجازر الساحل وجبل العرب، لن يشبه ما قبلها. سوريا على مفترق طرق، والكرد في قلب العاصفة، لكن في العاصفة تنبت فرص جديدة… لمن يعرف كيف يصمد ويُفاوض ويُخطط للمستقبل.
