من أجل وحدة القرار الكردي قراءة سياسية وحقوقية في المشهد الراهن

بقلم : برادوست الكمالي

 

في هذه المرحلة الدقيقة من مسار القضية الكردية في سوريا، لم يعد ثمّة متّسع للمناورات السياسية أو السياسات الأحادية التي تقفز فوق إرادة الشعب الكردي في سوريا، وتتجاهل التراكم النضالي الذي بناه أبناء شعبنا عبر عقود من المقاومة والتضحيات. إن العودة إلى مخرجات كونفراس وحدة الصف والموقف الكردي، والتمسك الحازم بمضامين الوثيقة الكردية المشتركة المنبثقة عنه، لم تعد خياراً تكتيكياً أو سياسياً فحسب، بل غدت ضرورة وطنية وقومية وأخلاقية، تفرضها تحديات اللحظة التاريخية، ومتطلبات حماية المصير والهوية والحقوق.

 

إن استمرار بعض الأطراف في تجاهل هذا المسار الجامع، واللعب خارج إطار التوافق الكردي الموحد، لا يفضي إلا إلى تعميق الانقسام، وإضعاف موقع شعبنا على طاولة التفاوض السورية، وتشويه جوهر قضيته العادلة. لقد آن الأوان لإنهاء سياسات التحكم الانفرادي بمصير شعب بأكمله، والعودة إلى صوت الجماعة القومية الذي جسدته الوثيقة الكردية المشتركة، تحت رعاية دولية مباشرة من الولايات المتحدة وفرنسا.

 

في خضم التعقيدات المتزايدة التي يشهدها المشهد السوري، وما يرافقها من تصريحات متباينة للمسؤولين الدوليين، تطفو إلى السطح مجدداً الحاجة الملحة إلى بلورة موقف كردي موحد، لا يركن إلى ردود الأفعال اللحظية، بل يؤسس لمسار استراتيجي واضح المعالم، يتكئ على توافق قومي داخلي أولاً، وعلى الدعم الدولي المبني على الحقائق والوقائع ثانياً.

 

لقد شكّلت التصريحات الأخيرة للمبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، السيد توم بارك، لقناة روداو، جدلاً واسعاً في الأوساط السورية والكردية، حيث فُهم من كلامه أن واشنطن تعارض أي شكل من أشكال الفيدرالية أو اللامركزية السياسية في مستقبل سوريا. غير أن مراجعة دقيقة لنص المقابلة وسياقها يُظهر أن تصريحاته تم تأويلها بشكل مجتزأ، وربما جرى تحريفها إعلامياً. فحين تحدث بارك عن “سوريا موحدة” و”جيش واحد”، لم يكن بصدد رفض الفيدرالية كمبدأ، بل كان يشير إلى الرؤية الرسمية الحالية في دمشق، وليس إلى موقف نهائي أو ملزم من قبل الولايات المتحدة. بل على العكس، لم يتضمن حديثه أي تصريح مباشر بأن أمريكا “لا تقبل بالفيدرالية”، ولم ينفي إمكانية وجود نماذج من الحكم اللامركزي ضمن الدولة السورية، على نحو لا يتعارض مع وحدتها الجغرافية والسياسية.

 

وبناء على ما سبق، فإن التصريحات المتداولة لا تعبر عن موقف شامل للإدارة الأمريكية، لا تزال وزارة الدفاع الأمريكية تواصل اتباع سياسة استراتيجية واضحة تهدف إلى دعم الاستقرار في شمال وشرق سوريا، وتعزيز التعاون والشراكة الفاعلة في مكافحة الإرهاب، إلى جانب تطوير وإرساء آليات حوكمة محلية فعّالة ومستدامة.

 

أمام هذه التطورات، يصبح لزاماً على الوفد الكردي المشترك أن يتحرك وفق خطة متعددة المحاور تشمل الجوانب السياسية والإعلامية والحقوقية، لضمان إيصال صوت الشعب الكردي بوضوح إلى المجتمع الدولي، والتصدي لأي محاولة لفرض حلول لا تتسق مع تطلعاته المشروعة.

 

سياسياً، من الضروري العودة إلى المرجعية القومية الكردية المتمثلة بالرئيس مسعود البارزاني، وطلب دعمه ومشورته في هذه المرحلة الحرجة، لما له من مكانة رمزية وعملية في تجسيد وحدة الصف الكردي. كما يجب تعزيز العمل مع الدبلوماسية الدولية، وتكثيف اللقاءات مع ممثلي الدول الفاعلة، لا سيما الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، لتأكيد ضرورة احترام خصوصية القضية الكردية، واستحقاقها لحل سياسي عادل ومُرضٍ.

 

إعلامياً، ينبغي إطلاق حملة توعوية وتعبوية منظمة لتوضيح حقيقة التصريحات الأخيرة، وتصحيح التأويلات المغرضة التي رافقتها، وتبيان أن المشروع الكردي لا ينفصل عن وحدة سوريا، بل يسعى إلى ضمان الحقوق الكردية ضمن صيغة ديمقراطية لا مركزية، تُقر بالتعدد القومي وتضمن التوازن المؤسساتي بين المكوّنات.

 

أما حقوقياً، فينبغي تكثيف عمل المنظمات الحقوقية الكردية لتوثيق الانتهاكات التي ما تزال تطال الشعب الكردي في سوريا، وتقديم تقارير دورية إلى الجهات الدولية الفاعلة، بما في ذلك مجلس حقوق الإنسان والبرلمان الأوروبي والمنظمات الدولية المستقلة. كما يتوجب التمسك بالوثيقة الكردية المشتركة كمرجعية تمثيلية جامعة، تستند إلى الشرعية السياسية والدعم الشعبي والتوافق الحزبي.

 

وفي سياق متصل، لا بد من قوات سوريا الديمقراطية إلى فتح الأبواب على مصراعيها أمام عودة قوات بيشمركة روج الكردية السورية إلى الداخل، والعمل على تأسيس مجلس عسكري كردي سوري موحد، نظراً لما تتطلبه المرحلة من تكاتف الجهود وتوحيد الإمكانات والطاقات العسكرية. كما ينبغي توسيع فضاء العمل المدني من خلال فتح المجال أمام الكفاءات العلمية والمجتمع المدني الكردي في الخارج للعودة والمشاركة في تشكيل فريق استشاري كردي متخصص، يكون رديفاً سياسياً وأكاديمياً للوفد الكردي المشترك في مفاوضاته المقبلة.

 

في المرحلة الراهنة، يشكل تعزيز التعاون والتكامل بين الوفد الكردي المشترك والمجتمع المدني الكردي والمنظمات الحقوقية المستقلة ركيزة أساسية لبناء قرار قومي ديمقراطي وشرعي، يستند إلى تمثيل شامل ومتوازن لأصوات الشعب الكردي. هذه المكونات ليست ملحقات تنظيمية، بل عناصر جوهرية تسهم في إغناء النقاش السياسي وتوسيع قاعدة الشرعية الشعبية.

 

الارتقاء بمستوى التنسيق والتشاور الداخلي، وفق مبادئ الشفافية والمساءلة واحترام التنوع السياسي والاجتماعي، يمثل منطلقاً حيوياً لتحصين الموقف الكردي وتعزيز فرص نجاحه في المفاوضات المحلية والدولية، كما يرسخ نموذجاً ديمقراطياً يُحتذى به في إدارة القضايا الوطنية المعقدة.

 

باتباع هذا النهج، يمكن للوفد الكردي المشترك ترسيخ مكانة القضية الكردية في المشهد السياسي السوري والإقليمي والدولي، وتحويل التطلعات المشروعة لشعبنا إلى مكتسبات حقيقية على صعيد الحقوق والحريات والعدالة.