بقلم : حوران حم
لا شيء يُعرّي الاغتراب أكثر من مشهد أب كردي لا يستطيع أن يتحدث مع أطفاله بلغته. يجلس أمامهم، في بيت أوروبي نظيف، يدخن بصمت، يحاول أن يشرح شيئًا بسيطًا… فلا يفهمونه. تتراكم الكلمات في حلقه، لكنها لا تجد طريقها إلى آذانهم.
جاءت فكرة كتابة هذا المقال من الصديق S_S، الذي أضاء هذا الجانب المؤلم في حديث عابر.
قد يبدو المشهد عابرًا، لكنه في الحقيقة أكثر فظاعة من كل الخسارات التي تعرض لها الكرد طوال القرن الماضي. لأن هذه المرة، لا يأتي النسيان من عنف الدولة، بل من داخل البيت. من أب وأم قررا، ولو من دون وعي، أن يكفرا بلغتهما، أن يتنازلا عنها طوعًا، أن يورّثا أبناءهما انقطاعًا حادًا عن الجذور.
وهذه ليست مشكلة ألمانيا فقط، أو السويد، أو هولندا. نحن نراها تتكرر في مناطقنا، حين تهاجر العائلة الكردية إلى دمشق أو حلب أو بغداد أو أو طهران، وتبدأ “لغة الدولة” بالتسلل إلى البيت. في البداية من باب الدراسة والعمل، ثم تصبح لغة الحياة اليومية، ثم تتحول الكردية إلى شيء يُستخدم فقط مع الأجداد، إلى أن تتبخر.
كم من شاب كردي وُلد في حيّ عربي في سوريا، أو في ضاحية إيرانية، لا يستطيع أن يقرأ جملة كردية واحدة؟ كم من فتاة كردية تتحدث العربية بطلاقة، وتفكر بها، وتحلم بها، وتخجل إن نطقت بالكردية أمام أصدقائها؟ ما الذي حدث؟ هل هي صدفة؟ أم سياسة محكمة؟ أم أننا نحن الذين فرّطنا طوعًا بما لا يُقدّر بثمن؟
اللغة ليست مجرد وسيلة تواصل، بل خيط غير مرئي يربطك بكل ما كنت عليه. إن نسيت لغتك، نسيت حكايات أمك، وأناشيد جدتك، ووصايا أبيك، ومواويل قريتك. نسيت رائحة الأرض. اللغة هي هوية حيّة، حين تُهجَر، تُهجَر الذاكرة نفسها.
بعض الآباء الكرد في أوروبا يتفاخرون بأن أبناءهم لا يعرفون الكردية. يعتبرون ذلك إنجازًا تربويًا. “أطفالي يتحدثون الألمانية بطلاقة”، يقول أحدهم، وكأنه يتحدث عن وسام شرف. لكنه لا يدرك أن ابنه الألماني لن يفهم يومًا لماذا قُتل جده في كوباني، ولماذا نُفي خاله من ماردين، ولماذا بكى والده يوم سمع نشيد “Ey Reqîb”.
وهنا تكمن الكارثة. أن يُقطع الحبل السري مع الذاكرة. أن يكبر جيل كردي لا يشعر بأنه كردي. لا يعرف تاريخه، لا يحمل لغته، لا يفهم أغانيه، لا يبكي على قصائده. وإن فعل، فبلغة غير لغته.
اللوم لا يقع على الدولة وحدها، بل على الأسرة، وعلى الأحزاب، وعلى النخب التي اختزلت الكردية في شعارات سياسية، ونسيت أن اللغة هي الجبهة الأولى التي يجب ألا تسقط.
هل من الصعب أن يتحدث الأب الكردي مع طفله بلغته؟ هل من الصعب أن تُغنّى له أغنية من تراثك بدل أغنية أجنبية؟ هل من الصعب أن تحكي له قصة “مم وزين” بدل أن تحكي له عن “هاري بوتر” فقط؟ لا، ليس صعبًا، لكنه يحتاج إلى وعي. وإلى قناعة أن اللغة ليست شيء إضافي، بل هي أصل المسألة كلها.
نعم، دعوا أبناءكم يتعلمون لغة البلد الذي يعيشون فيه، فهذه ضرورة، لا نقاش فيها. لكن علّموهم لغتكم أيضًا. دعوهم يعرفون من هم، قبل أن يصبحوا شيئًا آخر. أحيوا الكردية في بيوتكم، كما تُضيئون شمعة في ليلة مظلمة.
علينا أن لا نكون متطرفين، بل أن نكون واعين. لأن من ينسى لغته، ينسى نفسه. ومن نسي نفسه، ضاع. وضياع اللغة، يا أبناء شعبي، ليس مجرد ضعف… إنه انقراض بطيء لهويتنا.
