بقلم سليمان سليمان – منسق حركة السلام الكوردستاني
الكورد وحق تقرير المصير بين الإنكار الدولي والصمت الإقليمي
في عالم يُقال إنه تجاوز القوميات، نجد أن الواقع يسير في الاتجاه المعاكس: أحزاب قومية تتصدر الانتخابات في أوروبا، شعوب تطالب بالاستقلال، وخطاب السيادة الوطنية يعود بقوة. وحدهم الكورد، وهم أكبر قومية في العالم بلا دولة، يُطلب منهم أن يتخلوا عن حلمهم القومي حينًا باسم “الواقعية السياسية” وأحيانًا بحجة أن عصر القوميات انتهى.
لكن، هل حقًا انتهى عصر القوميات؟ أم أن ما يحدث هو إعادة إنتاج لها وفق مصالح الأقوياء؟ ولماذا يُرفض حق الكورد بينما يُمنح لغيرهم؟
رغم ما يروجه البعض من أن القومية باتت من الماضي، فإن الواقع العالمي يؤكد عكس ذلك. فصعود الأحزاب القومية في أوروبا خلال العقد الأخير، يعكس رجوعًا واسعًا إلى الهويات الوطنية كوسيلة للحفاظ على الخصوصية والحقوق في عالم تتآكله العولمة. أحزاب مثل “التجمع الوطني” في فرنسا، و”رابطة الشمال” في إيطاليا، و”البديل من أجل ألمانيا”، كلها نماذج لقوى سياسية تنادي صراحة بإعلاء القومية، والانسحاب من الاتفاقيات الدولية، ورفض الهجرة، وإعادة الاعتبار للدولة القومية كمرجعية أولى.
وفي مقابل هذا المدّ القومي المتصاعد عالميًا، لا يزال الشعب الكوردي، وهو أكبر قومية في العالم بلا دولة، يواجه إنكارًا ممنهجًا لحقه في تقرير مصيره. رغم امتلاكه مقومات الأمة الكاملة – من أرض وتاريخ ولغة وهوية – لا يزال المجتمع الدولي يرفض الاعتراف بحقه في إقامة دولته القومية، مفضلًا الحفاظ على خرائط ما بعد الحرب العالمية الأولى، وإرضاء أنظمة إقليمية تخشى أن يقود الاعتراف بالكورد إلى مطالب استقلال مماثلة داخل حدودها.
الموقف العربي والإسلامي لا يقل تناقضًا. فبينما تُرفع الرايات دعمًا لفلسطين (وهو دعم محق ومشروع)، يُقابل المطلب الكوردي بالرفض أو الصمت المطبق. تُرفع شعارات الأمة الواحدة، لكن تُمارس سياسات التفريق والكيل بمكيالين. وكأن القومية العربية أو التركية أو الفارسية فوق القومية الكوردية، أو أن تقرير المصير امتياز لا حق.
اللافت أن بعض الأصوات الكوردية نفسها، خاصة من نخب حزبية مرتبطة بمصالح ضيقة، تتبنى خطابًا يُشكّك في جدوى الدولة القومية، وتروّج لفكرة أن عصر القوميات قد ولّى. هؤلاء لا ينطلقون من تحليل واقعي، بل من حسابات آنية تتجاهل أن القومية لا تموت، بل تتجدد وتتكيف، وأن الحقوق المؤجلة لا تُمحى، بل تتحول إلى مطالب متراكمة تنفجر حين تحين لحظتها التاريخية.
القضية الكوردية اليوم لم تعد فقط اختبارًا لعدالة المجتمع الدولي، بل امتحانًا لمصداقية كل من يدّعي الدفاع عن حقوق الشعوب. فكيف يُمنح حق الدولة لعشرات القوميات، ويُحرم منه الكورد وحدهم؟ وإذا كانت القومية لا تزال تُلهب الشوارع الأوروبية، فكيف يُطلب من الكورد وحدهم أن يتخلوا عنها باسم الواقعية أو الانفتاح؟
نعم، إن عصر القوميات لم ينتهِ، ولن ينتهي. وما دام هناك شعب يُنكر عليه حقه القومي، فإن فكرة الدولة القومية ستظل حية، لأنها الوسيلة الأوضح لتجسيد هوية الشعوب وضمان كرامتها وحقوقها. وعدالة العالم تبدأ من هنا: من الاعتراف بأن الكورد، مثل غيرهم، يستحقون أن يكون لهم وطن.