بقلم : حوران حم
في الثامن من كانون الأول/ديسمبر، سقط بشار الأسد، وخرجت الجماهير السورية بمختلف أطيافها القومية والدينية إلى الساحات، محتفلة بانتصار طال انتظاره. إلا أنّ هذا الفرح الجماعي لم يدم طويلاً، فسرعان ما بدأت ملامح خيبة الأمل تتسلل إلى وجوه الشعب السوري. فقد تبين أن “سقوط الطاغية” لم يكن سوى بداية لمرحلة جديدة من إعادة إنتاج نظام إقصائي لا يختلف كثيراً عن سابقه، سوى بتبدل الوجوه والأسماء، مع بقاء العقلية والنهج على حالهما.
لكن الكُرد لم يكونوا غائبين عن مشهد الثورة السورية. فمنذ انتفاضة القامشلي عام 2004 ضد نظام البعث، مروراً بثورة 2011، وصولاً إلى المعارك ضد داعش، كان للكُرد حضور فعّال ومؤثر، وقدّموا آلاف الشهداء في سبيل تحرير الأرض وبناء مشروع ديمقراطي تعددي. ورغم ذلك، ظلّوا في موقع التهميش، وأحياناً الاستغلال، من قبل شركاء الثورة قبل أعدائها.
نقطة التحول: اتفاق مظلوم عبدي في 10 آذار
شكّلت البنود الثمانية التي اتفق عليها مظلوم عبدي، القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية، مع السلطة السورية في 10 آذار/مارس، لحظة مفصلية في مسار الحراك الكردي. ورغم الطابع العسكري الظاهري لهذا الاتفاق، إلا أن انزلاقه إلى جوانب سياسية حساسة دون إشراك الفاعلين السياسيين الكرد، أضعف الموقف الكردي أمام دمشق والمجتمع الدولي.
كان الأولى بمظلوم عبدي أن يركز على الملف الأمني والعسكري، ويفتح المجال للهيئات السياسية والخبراء لتولي الحوار حول مستقبل الشعب الكردي في سوريا. لكن هذا التداخل بين العسكري والسياسي في غياب مؤسسة سياسية كردية موحدة جعل القرارات تُصاغ في غرف مغلقة، وبمعزل عن تطلعات الشارع الكردي.
الحركة الكردية وتشرذم القرار السياسي
منذ بدايات الثورة، كانت هناك دعوات صادقة لعقد مؤتمر كردي سوري جامع، يضمن استقلالية القرار الكردي عن التجاذبات الإقليمية. لكن هذه الدعوات لم تجد آذاناً صاغية، بسبب الانقسامات الحزبية، والارتباطات بمحاور كردستانية مختلفة (قنديل – هولير – السليمانية). وهكذا، ضاعت فرصة توحيد الخطاب الكردي السوري في لحظة كانت من الممكن أن تغيّر المعادلة السياسية لصالح هذا الشعب.
نداء أوجلان المتزامن: صدفة أم تنسيق؟
توقيت ظهور رسالة عبد الله أوجلان المصورة في 9 أيار 2025، بالتزامن مع لقاء مظلوم عبدي ووفد الإدارة الذاتية مع “أحمد الشرع” والمبعوث الأمريكي “توماس براك”، لم يكن محض صدفة. بدا الأمر وكأن رسالة أوجلان التي تخلت صراحة عن مطلب الدولة القومية وحق تقرير المصير، جاءت لتسحب الغطاء الأيديولوجي عن المشروع الكردي في سوريا، ولتمنح الشرعية لاتفاقات غامضة تُبرم دون تمثيل فعلي للكرد.
هنا بدأ التهميش الرسمي للوفد المنبثق من مؤتمر 26 نيسان، وهو المؤتمر الذي حظي بشرعية شعبية واسعة، ورفع سقف المطالب الكردية على قاعدة الحقوق القومية، وليس فقط الثقافية أو الإدارية. فكان غيابه عن المحافل الدولية، وتحديداً من اجتماعات الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية، دليلاً على سياسة ممنهجة لإقصاء الصوت الكردي الحقيقي.
الشرع وتكريس الدولة الأحادية
“أحمد الشرع”، الذي صعد إلى السلطة بعد سقوط الأسد، أعاد إنتاج مفهوم الدولة المركزية الموحدة، وإن بتغليف حداثوي جديد. من مؤتمر “الوحدة الوطنية”، إلى مؤتمر “النصر”، إلى مشاريع “الهوية البصرية”، كان الكرد والدروز والعلويون والآشوريون والتركمان والأرمن، مجرد زخرفة لـ”وطنية سورية” يُراد فرضها من الأعلى، دون حوار أو ضمانات.
كما أن انفتاح الشرع على دول الإقليم، وتطبيعه مع إسرائيل ضمن اتفاق “إبراهام سوري”، جاء لشراء رضى الغرب، وبالأخص الولايات المتحدة، التي باتت تنظر للشرع كضامن للاستقرار أكثر من الكرد الذين يشكلون “صداعاً في رأس الحلفاء”، كما وصفهم أحد الدبلوماسيين.
الموقف الأمريكي المتقلب
تصريحات المبعوث الأمريكي توماس براك لقناة “روداو” بأن “سوريا غير قابلة للتقسيم أو الفدرلة” مثّلت خيانة صريحة للوثائق السابقة التي دعمت فيها أمريكا وفرنسا مشروع الفيدرالية، بل وشجعت على صياغة “الوثيقة الكردية” وفق هذا التصور. هذا التراجع يعكس المصلحة لا المبدأ، ويؤكد أن واشنطن – كغيرها – ليست إلا لاعباً يبحث عن أوراق القوة، حتى لو كانت على حساب شعب قدم أغلى ما يملك.
رؤية للحل: وفق مواثيق الشرعية الدولية
رغم هذا الواقع السوداوي، إلا أن الحلول ما زالت ممكنة، إذا ما تمسّك الكرد بالآتي:
1. عقد مؤتمر كردي سوري جامع، يضم جميع القوى والأحزاب والمستقلين من مختلف مناطق كرد سوريا، لصياغة رؤية موحدة للحل.
2. التدويل الرسمي للقضية الكردية السورية، عبر تقديم ملفات انتهاك الحقوق الجماعية إلى الأمم المتحدة، ومحكمة العدل الدولية، والمطالبة بتفعيل المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة المتعلقة بحق تقرير المصير.
3. إعادة تعريف الفيدرالية، ليس كتقسيم، بل كضمانة دستورية لحقوق الشعوب. الفيدرالية ليست مشروع انفصال، بل وسيلة لحماية الخصوصيات القومية والدينية والثقافية.
4. التحالف مع المكونات السورية المهمشة، مثل الدروز والآشوريين والعلويين، لصياغة “ميثاق وطني بديل”، يضمن تمثيل جميع المكونات على قاعدة الشراكة لا الهيمنة.
5. الضغط الشعبي والسياسي والإعلامي على حلفاء الأمس، لعدم التخلي عن القضية الكردية، وتحميلهم مسؤولية تاريخية عن أي نكسة تصيبها.
لقد سقط الأسد، لكن النظام لم يسقط بعد. تغيّر الرأس، لكن العقلية باقية. وعلى الكرد، إذا أرادوا ألّا يُخدعوا مرة أخرى، أن لا يراهنوا إلا على قوتهم الذاتية ووحدة صفهم، وعلى القانون الدولي الذي يكفل لهم – كما لكل شعب – الحق في تقرير مصيرهم، بحرية وكرامة.
