سوريا بين استبدادين: من قمع البعث إلى قناع الخلافة

بقلم : سليمان سليمان – منسق حركة السلام الكوردستاني

لم تولد السلطة الجديدة في دمشق من رحم ثورة حقيقية، ولا تُعبّر عن تطلعات السوريين الذين خرجوا إلى الشوارع يطالبون بالحرية والكرامة. إنها ببساطة ولادة قيصرية مشوّهة، رتّبتها قوى إقليمية ودولية، جاءت بنظام يحمل ملامح النظام القديم، لكنه يتدثّر بشعارات دينية وثورية زائفة.

النظام السياسي السوري الحالي، بقيادة أحمد الشرع تحت مسمّى “الحكومة الإسلامية” أو “حكومة دمشق الجديدة”، لم يكن يومًا نتاج إرادة شعبية حقيقية، ولا نتيجة لمسار ثوري ناضج أفرز قيادة تُعبّر عن تطلعات السوريين. بل جاء إلى السلطة من خلال صفقة دولية، استبدلت نظامًا مخلوعًا بآخر مشوّه، وربما أشد خطرًا وأكثر زيفًا.

هذا النظام، الذي يدّعي تمثيل الشعب، لم ينبثق عن عقد وطني جامع، بل فُرض فرضًا عبر أجندات مشبوهة ومصالح أمنية. ولذلك، فمن يولد بهذه الطريقة لا يمكنه أن يكون مشروع تحرر أو بناء، بل يتحول إلى مشروع استبداد مغلّف بشعارات مؤقتة، هدفه البقاء في الحكم بأي ثمن، ولو على حساب دماء الناس وكرامتهم.

لقد تحوّل النظام الجديد إلى نسخة هجينة من الاستبداد القديم، يرفض الاعتراف بحقوق القوميات والطوائف، يحتكر السلطة باسم الدين، ويقصي كل من لا ينتمي إلى حاشيته. لا يحمل شرعية ثورية ولا قاعدة شعبية حقيقية، بل يستند إلى الدعم الخارجي وشبكات النفوذ الإقليمي. والمفارقة المؤلمة أن هذا النظام، الذي يدّعي تحرير سوريا، مستعد للتنازل عن كل شعاراته باسم الدين أو الثورة، فقط لإرضاء الجهات التي صنعته. لم يكن هذا المسار يُعبّر عن تطلعات السوريين الذين حلموا بالحرية، بل كان نتيجة هندسة دولية أرادت الحفاظ على شكل من أشكال السيطرة، حتى لو كان بلباس ديني.

الشعب السوري اليوم ليس إلا وقودًا لهذا المشروع السلطوي. لا يهم إن مات الناس جوعًا، أو هُجّروا من بيوتهم عمدًا، أو عانوا من الفقر والذل. المهم فقط أن تبقى صورة “الأمير” و”الخليفة” قائمة، حتى وإن كان الوطن في حالة موت سريري.

إن هذا النموذج لا يُعبّر عن السوريين الذين ثاروا من أجل الكرامة، بل يُشوّه ثورتهم، ويُمهد لاستبداد جديد قد يكون أشد قسوة، لأنه يتكئ على قداسة زائفة ودعاية دينية مفرغة من أي مضمون أخلاقي أو إنساني.

إن ما تحتاجه سوريا اليوم ليس سلطة دينية ولا مركزية قومية مستبدة، بل عقد وطني جديد يقوم على العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات، والاعتراف بالتعدد القومي والديني كمكوّن أساسي للهوية السورية، ومنح كل مكوّن حقه الطبيعي في إدارة شؤونه ضمن نظام فيدرالي ديمقراطي.

لقد أثبت النظام المركزي البعثي الذي حكم سوريا لعقود، أنه دمّر الدولة والمجتمع معًا. قتل مئات الآلاف، هجّر الملايين، دمّر البنية التحتية، وحوّل سوريا إلى ساحة مفتوحة لكل اللصوص والمرتزقة. القادمون من اللامكان واللازمان، واليوم، ها هو يعود بثياب جديدة، لكنه يحمل العقلية نفسها التي لا ترى في سوريا إلا مزرعة طائفية أو قومية مغلقة.

والأخطر من ذلك أن بعض القوى والشخصيات الشوفينية، داخل سوريا وخارجها، ما زالت تتمسك بهذه المنظومة الاستبدادية الفاشلة، رافضة الاعتراف بالتاريخ والجغرافيا، ومصرة على أن سوريا ملك حصري لها، متجاهلة أن سوريا ليست دولة عربية خالصة، بل بلد متعدد الشعوب والحضارات. حتى المصادر العربية التاريخية تؤكد أن العرب كانوا من آخر من وفدوا إلى هذه الأرض الطيبة التي سبقتهم إليها حضارات عظيمة مثل الكورد، السريان، الآشوريين، الأرمن، الكلدان، وغيرهم. ولهذا، فإن الفيدرالية لم تعد خيارًا سياسيًا للكورد فقط، بل صارت الحل المنطقي والوحيد لبقاء سوريا دولة قابلة للحياة. إنها الضمان الحقيقي لعيش السوريين معًا بأمن وسلام، بعد كل هذا الدمار والقتل والإقصاء. وهي الطريق الوحيد نحو إعادة الثقة بين المكونات، وبناء دولة حديثة لكل أبنائها دون تمييز، دولة تليق بتضحيات ملايين السوريين، وتضع حدًا لدوامة الاستبداد المزمن، سواء كان بلباس قومي، أو ديني، أو عسكري.

وإن لم يقبل الشوفينيون العرب بأن تكون سوريا دولة فيدرالية، فهذه مشكلتهم، وهم يتحمّلون المسؤولية الكاملة. لأن الكورد تنازلوا عن حقهم في الاستقلال، وطرحوا الفيدرالية من منطلق مصلحة وطنية تشمل الجميع، وليس من أجل الشعب الكوردي وحده.

وفي النهاية، نؤكد أن نهيق بعض الشوفينيين العرب الذين استفادوا من النظام المركزي الاستبدادي، كما كان في عهد المقبور حافظ الأسد وابنه الهارب بشار، ثم هرولوا اليوم للتصفيق لأحمد الشرع، لن يُجدي نفعًا. لا تصفيقهم ولا صراخهم على الشاشات سيُغيّر من الحقيقة شيئًا. هؤلاء، الذين تعودوا أن يُشوّهوا التاريخ ويُزوروه، أمثال الحاقد والشوفيني أسعد الزعبي، والعنصري بسام السليمان، وغيرهم الكثير، الذين يُطلّون على بعض القنوات لتهديد الكورد حينًا، وللترويج لأكاذيب عن “أغلبية عربية” مزعومة في مدن كوردية كقامشلو، الحسكة، عامودا، ديرك، وحتى كوباني، لا يُمثّلون إلا صوت المركزية المُهترئة التي لفظها السوريون.

تَصوّروا يرعاكم الله، يقولون إن العرب يُمثّلون “الأغلبية المطلقة” في روج آفا وكوردستان سوريا! كأن التاريخ والجغرافيا يمكن تزييفهما بالصراخ أو البروباغندا. سوريا الجديدة لن تكون إلا لكل مكوناتها، أو لن تكون.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *