الفقر والجريمة في منظور المدرسة الاشتراكية الاجتماعية: نقد علمي وتحليل للآثار الجنائية الحديثة
بقلم : شڤين محمد علي
في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، شهدت أوروبا تحولات اقتصادية واجتماعية عميقة بسبب الثورة الصناعية. فقد أدى التصنيع السريع إلى نشوء طبقات اجتماعية جديدة، حيث ازداد عدد العمال الذين يعيشون في ظروف صعبة، في ظل تفاوت طبقي واضح بين الأغنياء والفقراء. هذه البيئة أنتجت حالة من الفقر المدقع والبطالة وسوء المعيشة لدى قطاعات واسعة من المجتمع، مما دفع علماء الاجتماع والقانون والمفكرين إلى إعادة النظر في تفسير ظاهرة الجريمة.
في هذا السياق، ظهرت الاتجاهات الاشتراكية الاجتماعية في علم الإجرام، وهي تيارات فكرية أكدت أن الجريمة ليست مجرد فعل فردي ناتج عن صفات بيولوجية أو إرادة شريرة مستقلة، بل هي نتيجة حتمية للظروف الاقتصادية والاجتماعية الظالمة التي يعيشها الأفراد. من وجهة نظر هؤلاء المفكرين، فإن النظام الاقتصادي الرأسمالي، الذي يقوم على استغلال الطبقة العاملة وإدامة الفوارق الطبقية، يخلق بيئة اجتماعية تدفع بعض الأفراد إلى ارتكاب الجرائم، إما بدافع البقاء أو نتيجة شعورهم بالظلم والتهميش.
الشخص الأبرز الذي عبّر عن هذه الرؤية بوضوح هو إنريكو فيري (Enrico Ferri)، أحد رواد المدرسة الوضعية الإيطالية في علم الإجرام. فيري، الذي كان أيضًا سياسيًا اشتراكيًا، أكد في مؤلفه الشهير “علم الاجتماع الإجرامي” (Criminal Sociology, 1895) أن الجريمة ظاهرة اجتماعية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالعوامل الاقتصادية. بالنسبة لفيري، لا يمكن فهم أسباب الجريمة دون النظر إلى الظروف الاجتماعية المحيطة بالمجرم، مثل الفقر، البطالة، الأمية، والتمييز الاجتماعي. فيري رفض فكرة أن العقوبة وحدها يمكن أن تردع الجريمة، ورأى أن الحل الحقيقي يكمن في إصلاح البيئة الاجتماعية نفسها. بمعنى آخر، إذا حسّنا ظروف المعيشة، وقللنا الفجوة الاقتصادية بين الطبقات، ووسعنا التعليم وأتحنا فرص العمل، فإن معدلات الجريمة ستنخفض بشكل طبيعي. من هنا، دعا إلى اعتماد الوقاية الاجتماعية بدلًا من الاقتصار على العقوبات الجنائية. تجدر الإشارة إلى أن هذا الاتجاه الاشتراكي الاجتماعي في علم الإجرام شكّل ثورة فكرية مقارنة بالنظريات التقليدية السائدة، مثل المدرسة الكلاسيكية التي كانت ترى الجريمة اختيارًا حرًا نابعًا من إرادة المجرم، أو المدرسة الوضعية البيولوجية التي ركزت على العوامل الوراثية والعضوية. الاتجاه الاشتراكي، على العكس من ذلك، جعل من البنية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع العامل الرئيسي لتفسير السلوك الإجرامي.
السؤال الجوهري هنا كيف أثرت الاتجاهات الاشتراكية الاجتماعية على قوانين الجريمة الحديثة؟
الجواب هو أن الاتجاه الاشتراكي الاجتماعي في علم الإجرام، الذي ركز على الفقر والظلم الاجتماعي باعتبارهما أسبابًا رئيسية للجريمة، بدأ يؤثر تدريجيًا على القوانين وسياسات العدالة الجنائية الحديثة، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، مثال على هذا، بدلًا من الاعتماد فقط على السجن والعقوبات، بدأ السياسات الجنائية تهتم بـ”منع الجريمة” عبر معالجة المشكلات الاجتماعية التي تؤدي إليها، مثل تحسين مستويات التعليم، والرعاية الصحية، والإسكان للفقراء وايضاً في كثير من الدول الأوروبية وكندا، أصبحت العقوبات لا تقتصر على السجن، بل هناك برامج لإعادة تأهيل الجناة اجتماعيًا وتعليميًا، كي يندمجوا مرة أخرى في المجتمع بدل أن يعاد إنتاج الجريمة داخل السجون، مع ذالك القوانين الحديثة بدأت تعترف بضرورة حماية الفئات المعرضة للخطر اجتماعيًا مثل الأطفال الفقراء، المهاجرين، النساء ضحايا العنف، ومساعدتهم عبر برامج اجتماعية وليس فقط أمنية مثل دولة سويد.
رغم أن المدرسة الاشتراكية الاجتماعية قدّمت فهمًا عميقًا لعلاقة الجريمة بالظروف الاقتصادية والاجتماعية، إلا أنها لم تسلم من النقد من عدة اتجاهات فكرية وعلمية، خاصة في القرنين العشرين والحادي والعشرين.
أبرز الانتقادات التي واجهتها:
النقد | الناقد |
الجريمة قرار شخصي أكثر من كونها نتيجة للفقر | إرنست فان دن هاغ |
انهيار الضوابط الاجتماعية، لا الفقر وحده يولد الجريمة | جيمس ك. ويلسون |
الروابط الاجتماعية اقوى من الظروف الاقتصادية في منع الجريمة | ترافيس هيرشي |
دعا لتحليل اعمق للعلاقات الطبقية بدلا من التبسيط الاجتماعي | ريتشارد كويني |
في نهاية المطاف، يمكن القول إن المدرسة الاشتراكية الاجتماعية ساهمت في إثراء علم الإجرام من خلال تسليط الضوء على الجوانب الاجتماعية والاقتصادية للجريمة، ودفعت نحو سياسات جنائية أكثر إنسانية وشمولية. ومع ذلك، فإن الفهم الكامل للظاهرة الإجرامية يتطلب اليوم مزيجًا متوازنًا من التحليل البنيوي للعوامل الاجتماعية والاقتصادية، مع الاعتراف بدور الإرادة الفردية والعوامل النفسية في تشكيل السلوك الإجرامي.
ممناز 👏
جميل جدا