بقلم : فرهاد حبش
منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، شهدت البلاد تحولات جذرية على مستوى الهوية الجامعة، نتيجة تداخل عوامل داخلية وخارجية معقّدة. فقد لعب النظام السوري البائد دورًا محوريًا في خلق الصراعات الطائفية، بينما ساهم تدخل الفاعل الإقليمي في تعقيد المشهد، وإضعاف فرص التوافق على هوية جامعة وتعميق الانقسامات الإثنية والدينية، وزاد الأمر بوجود فصائل إسلامية متطرفة في تعقيد الصراع. وتتّسم الهوية السورية بتنوّع مكوّنات المجتمع، من عرب وكرد وسريان وتركمان، ومن مسلمين ومسيحيين وإيزيديين ودروز وغيرهم. وبعد سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024، وسيطرة فصائل إسلامية – سُنية على سدة الحكم، أصبح الأمر أكثر تعقيدًا من خلال اعتماد سياسة الإقصاء والتهميش، ومزّق الهوية السورية بتنوّعها المختلف، مما يستدعي البحث في سُبل بناء هوية جامعة تتجاوز منطق الإقصاء والتهميش والهيمنة الأحادية.
في هذا السياق، تبرز أهمية النظرية البنائية في تحليل الهوية السورية، بوصفها عملية اجتماعية-سياسية تتشكّل عبر التفاعل، والخطاب، والحوار السليم، لا باعتبارها معطًى ماديًا أو ثابتًا.
النظرية البنائية في العلاقات الدولية تركز على مفاهيم الهوية والأفكار والمعايير الاجتماعية في تشكيل السلوك السياسي للدول، وليس معطًى ماديًا وثابتًا كمثل النظرية الواقعية التي تفترض أن القوة والمصالح المادية هي التي تحمي المصالح الوطنية.
ويرى البنائيون أمثال ألكسندر واندت، أن المصلحة والهوية للفاعل سواء فردًا أو جماعة أو دولة، تُبنى أو تتشكّل عن طريق هذه الأفكار المشتركة والتفاعلات المتبادلة أكثر مما تتشكّل عن طريق الأمور المادية أو الطبيعية. ويرى فريدريك كروتشويل أن القيم والقواعد لا تؤسس لنا معيارًا للتصرف فقط، ولكن أيضًا تساعدنا كفاعلين على تحديد مسعانا وأهدافنا من خلال القواعد والقيم، وتؤسس معاني لهذه القيم لتصبح أساسًا يوجّه الفاعلين ويحدّد سلوكهم تجاه بعضهم بعضًا. في حين يحاول أمانويل أدلر التركيز على دور الهوية والقيم في تحديد المصلحة الوطنية وتشكيلها.
لذلك، من الممكن اعتبار مشكلة الأزمة السورية بعد سقوط نظام بشار الأسد أنها أزمة فكرية، واستخدام لغة الخطاب الطائفي، وعدم إدراك الوعي الكامل لمختلف الأطياف السورية. وسيطرة الفصائل الإسلامية – سُنية على الحكم واعتماد خطابٍ إقصائي وطائفي، مما أدى إلى انقسام بين مكونات السوريين، وآلية فرض خطابٍ أحادي على كافة مكونات الشعب السوري خلال ما يُدعى بالمؤتمر الحوار الوطني السوري والإعلان الدستوري من طرف واحد، وتشكيل حكومة مركزية بدون أي اعتبار لمكونات أساسية في سوريا التي حاربت لغة الإقصاء. والخروج من هذه الدائرة يتطلب جهدًا كبيرًا عبر الحوار وتفعيل دور المؤمنين بلغة الخطاب السليم، كما يدّعي البنائيون أن عبر التفاعل الاجتماعي يمكننا تحديد السلوك السياسي للدول وهويتها الجامعة بمختلف مكوناتها وتنوّعها. واعتماد الخطاب المتطرف يزداد الأمر تعقيدًا لا حله.
علينا اعتبار أن التنوع السوري ليس مصدر ضعف أو تهديد، بل فرصة لإعادة تشكيل هوية جديدة جامعة تقوم على الاعتراف المتبادل والمصالح المشتركة، وإشراك جميع المكونات والأطر السياسية والثقافية بما فيها دور المجتمع المدني كفاعل رئيسي لإعادة تأهيل الوعي المجتمعي نحو تشكيل الهوية السورية.
ورغم الاعتقاد أن المسألة السورية مسألة داخلية تتمركز على مفهوم الرؤية السياسية المشتركة والوعي المجتمعي، ولكن علينا عدم تهميش دور الفاعلين الإقليمي والدولي بعد سقوط نظام الأسد مثل (تركيا، دول الخليج، أمريكا والاتحاد الأوروبي) في إحياء عملية الخطاب والحوار مبني على التشاركية بين جميع المكونات السورية بدون أي إقصاء أو تهميش.
وهذا ما يجعل من النظرية البنائية آلية وعملية لفهم سبل الخروج من الأزمة، من خلال التركيز على الحوار وتشكيل هوية جامعة عبر التفاعل الاجتماعي والسياسي.