عبدالرحمن حبش – سكرتير الحزب الديمقراطي الكوردي في سوريا (الپارتي)
منذ أن كانت عفرين، هذه المدينة الوادعة في خاصرة الجبال الكوردية في كوردستان سوريا، وهي تشكّل رمزًا حيًّا للهوية الكوردية الأصيلة، وذاكرة متجذّرة في عمق الجغرافيا والتاريخ. فكل حجرٍ من حجارتها يشهد على انتمائها إلى كوردستان، مهما حاولت القوى العنصرية والشوفينية أن تطمس ملامحها أو تغيّر تركيبتها السكانية، أو حتى تُعيد تعريفها وفق أجندات غريبة عن روحها.
عفرين لم تكن يومًا مجرد مدينة على الخريطة السورية، بل كانت مركزًا ثقافيًا واجتماعيًا نابضًا للحياة الكوردية. فيها ازدهرت اللغة الكوردية، وتناقلت الأجيال فنون الغناء والموسيقى التراثية، وكانت ملاذًا آمنًا للمثقفين والفنانين والسياسيين الذين حملوا حلم الحرية والكرامة. لكنّ هذا الوجود الكوردي الأصيل أصبح هدفًا ممنهجًا لسياسات الإقصاء والإنكار، بدءًا من النظام السوري الذي تجاهل لعقود حقوق الكورد، وصولًا إلى الاحتلال التركي الذي حاول، ولا يزال، فرض تغيير ديموغرافي قسري في المنطقة.
إنّ ما تعرّضت له عفرين منذ عام 2018 من احتلالٍ وتهجيرٍ ونهبٍ منظّم، ليس سوى وجهٍ جديدٍ للشوفينية التي رافقت الدولة السورية منذ تأسيسها. فبدلًا من الاعتراف بالتنوّع القومي واللغوي كقيمة غنى وثراء وطني، اختارت أنظمة المنطقة أن تبني هويتها على النفي والإقصاء. واليوم، يتردّد الصدى ذاته على ألسنة بعض الأصوات الشوفينية التي تحاول إنكار هوية عفرين الكوردستانية، وتقديمها كمنطقة “سورية خالصة” في محاولة يائسة لطمس تاريخها وخصوصيتها.
لكن الحقيقة التاريخية لا تُلغى ببيانات سياسية ولا بخطاب عنصري. فالأرض تتكلم لغة أهلها، والتاريخ لا يُكتب بأهواء المنتصرين فقط، بل بما تركته الأجيال من آثارٍ وهويةٍ وانتماء. عفرين التي قاومت عبر التاريخ كل أشكال القهر، ستبقى كوردستانية الهوى والانتماء، لأنها تستمد شرعيتها من شعبها الذي لم ولن يتخلّى عن هويته مهما طال الزمن.
إنّ الشوفينية لا تُغيّر الجغرافيا، ولا العنصرية تستطيع أن تمحو الذاكرة الجمعية لشعبٍ حيّ. وكما فشلت الأنظمة في طمس هوية الكورد في قامشلو وكوباني وديريك، ستفشل كل محاولات تحويل عفرين إلى نموذجٍ مصطنع من التبعية والتغريب. فعودة عفرين إلى أهلها ليست مسألة سياسية فحسب، بل هي استعادةٌ للكرامة والعدالة، وإعادةٌ للتاريخ إلى مساره الطبيعي.
في النهاية، تبقى عفرين، رغم الجراح، عنوانًا للثبات والصمود، ورمزًا لهوية كوردستانية لا يمكن اختزالها بخطوط التقسيم أو شعارات الشوفينيين. إنها مدينة الحلم والحنين، مدينة الزيتون والحرية، التي ستظل تهمس للأجيال القادمة.
قد يحتلون الأرض لكنهم لا يستطيعون احتلال الذاكرة.
