بقلم : حوران حم
في مشهد إقليمي مضطرب، حيث تتشابك الأديان والطوائف والقوميات ضمن معادلات السلطة والانتماء والنجاة، تقف سوريا على مفترق طرق حاسم. إنّ غياب التعايش الحقيقي بين مكوناتها – دينياً، طائفياً، وقومياً – بات يهدد ما تبقى من إمكانية بناء دولة وطنية متماسكة. ففي ظل انعدام الثقة، واستمرار القرارات الانفرادية من قبل إدارة أحمد الشرع – التي تحكم اليوم باسم “الانتقال الديمقراطي” – دون إشراك حقيقي لبقية المكونات، وعلى رأسها الكُرد، ومع مراوغات واضحة فيما يخص مسارات الحل والحوار الوطني، فإنّ البلاد تتجه شيئاً فشيئاً نحو إعادة إنتاج الانقسام، لا تجاوزه.
إدارة الوقت أم قتل المستقبل؟
تُمارس سلطة الشرع ما يمكن تسميته بـ”سياسة اللعب بالزمن” لا البناء عليه. إذ تُطلق شعارات الشراكة، لكنها تتحصن خلف سلطة أمر واقع تتخذ قراراتها دون توافق، وتتحكم بمصير القوى الموجودة على الأرض ضمن منطق الغالب والمغلوب. هذه السياسة لا تؤسس لدولة، بل تُمهد لتفكك طويل الأمد، وتفتح الباب أمام تدخلات خارجية مستمرة، تتغذى على الانقسامات الداخلية وتعيد إنتاج الوصاية الدولية بصيغ جديدة.
غسل أيدي الإرهاب: هيئة تحرير الشام نموذجًا
في خضم هذا الفراغ، جاء القرار الأمريكي الأخير برفع صفة الإرهاب عن “هيئة تحرير الشام” – النسخة المعدلة من “جبهة النصرة” – كاشفًا عن تحولات في عقلية إدارة المصالح لا المبادئ. إذ بات من الواضح أن واشنطن تنظر إلى الخارطة السورية بعين التوظيف، لا التصنيف العقائدي. فـ”هيئة تحرير الشام”، رغم سجلها المتخم بالدماء والأفكار المتطرفة، تُستخدم الآن كأداة لإعادة هيكلة شمال غربي سوريا بما يخدم أهداف احتواء إيران، وتحجيم روسيا، وتحييد تركيا.
إسرائيل ترتب الملفات… وبتوقيع عربي-أمريكي
في الخلفية، تتحرك إسرائيل بتنسيق عالٍ مع الإدارة الأمريكية والأنظمة العربية والإقليمية لترتيب ملفات المنطقة من جديد. من الملف النووي الإيراني، إلى هندسة مستقبل غزة، إلى سحب المليشيات الموالية لإيران من سوريا ولبنان واليمن والعراق. لم تعد هذه القضايا تدار بمنطق “الردع” فقط، بل بمنطق “الاستئصال الهادئ”، بما يعني عمليًا تجفيف منابع النفوذ الإيراني عبر الاقتصاد، والسياسة، والأمن، وليس الحرب المباشرة فحسب.
في هذا السياق، قد نشهد في السنوات القليلة القادمة تقليصًا حادًا لنفوذ طهران في سوريا، بعد إسقاط النظام البعثي نهائيًا، وتشكيل إدارة جديدة مدعومة دوليًا. وهذا ما يمهّد لترتيبات إقليمية جديدة، قد تُفضي إلى مرحلة “ما بعد النفوذ الإيراني”.
الكُرد… والنافذة التي لا تُغلق
في خضم هذه المتغيرات، يُطرح السؤال الجوهري: هل سيكون للكُرد موقع في ترتيبات ما بعد الفوضى؟ الكُرد السوريون، الذين أثبتوا حضورهم في ميادين الدفاع والسياسة والإدارة، يمتلكون فرصة تاريخية لصياغة وضع دستوري يليق بتضحياتهم، قد يكون على شكل فيدرالية تُكرّس حقهم في الإدارة الذاتية، والاعتراف بهويتهم القومية ضمن سوريا جديدة.
لكن هذه الفرصة مرهونة بقدرتهم على تجاوز الانقسامات الداخلية، والرهانات الخاطئة، والتبعية لأجندات غير سورية. عليهم أن يتحركوا كقوة سورية بكرديتها، لا كأداة ضمن صراعات المحاور.
العمال الكردستاني… مأزق الاستمرار بين العزلة والعناد
أما في تركيا، فإن مراوغة حزب العمال الكردستاني بشأن تسليم السلاح والانخراط في عملية سياسية حقيقية، يفتح الباب أمام استمرار الحرب واستنزاف المناطق الكردية داخل وخارج تركيا. في المقابل، فإنّ رجب طيب أردوغان، الذي أدار الظهر لعملية السلام منذ سنوات، لا يظهر أي جدية في تلبية المطالب الكردية، لا في الحكم الذاتي، ولا في الحقوق الثقافية والسياسية.
ضمن هذه المعادلة، يبدو أن مصير كرد سوريا لن يكون بمنأى عن تعقيدات العلاقة بين أنقرة و”قنديل”. فطالما ظلّ ملف الكردستاني مفتوحًا دون حل، ستبقى تركيا تُقايض هذا الملف في ساحات أخرى، من شمال سوريا إلى العراق، مما يحدّ من قدرة الكرد السوريين على انتزاع وضع سياسي واضح ومستقر.
إنّ المنطقة كلها تمرّ بمرحلة إعادة تشكيل، وقد بدأت أوراق النفوذ تتغير، من موسكو إلى طهران، ومن أنقرة إلى تل أبيب. لكن من يملك القدرة على صياغة دوره ضمن هذه المرحلة، سيكون جزءًا من الخريطة الجديدة. أما من يتقوقع أو يراهن على الوقت، فسيجد نفسه على الهامش.
بالنسبة للكُرد، فإن التاريخ لا يمنح فرصًا كثيرة. وهذه إحدى تلك الفرص النادرة. فإما أن يتمسكوا بها برؤية موحدة، واستراتيجية عقلانية، أو يتركوها تضيع بين تناقضات الداخل وخبث الخارج.
