بقلم : سليمان سليمان – منسق حركة السلام الكوردستاني
في السنوات الأخيرة، برز الحضور الديني في المجتمعات الكوردية بشكل لافت. لم يعد الدين محصورًا في إطار الممارسات الفردية أو الطقوس التقليدية، بل تحوّل إلى ظاهرة علنية تتجلّى في مظاهر الزينة التي ترافق المناسبات الدينية، والخطابات التعبوية التي تتجاوز أحيانًا في حدّتها ونطاقها ما يُرى في مراكز دينية كبرى كقم أو مكة.
هذا التحوّل لا يمكن تجاهله، فهو لم يعد مجرد تعبير عن التدين الشعبي، بل بات يفرض نفسه على المشهد العام، ويستدعي وقفة نقدية جادة لفهم دلالاته وآثاره المستقبلية.
فهل نحن أمام يقظة روحية طبيعية تعبّر عن هوية مكمّلة؟ أم أمام مشروع سياسي-إقليمي يتمدد في ظل غياب رؤية وطنية واضحة؟
ما يحدث يتطلب قراءة متأنية، لا تنطلق من التشكيك في نوايا الناس، بل من الحرص على توازن الهوية الكوردية، وصيانة مشروعها الوطني من الذوبان في مشاريع خارجية.
ما نلاحظه لا يبدو مجرد تعبير عفوي عن التدين، بل يترافق مع تصاعد تأثير الخطاب الديني في الفضاء العام، وفي كثير من الأحيان في النقاشات السياسية والاجتماعية.
هذا التأثير لا يأتي بشكل صدامي أو مباشر، بل يتسلل بهدوء عبر المساجد، والإعلام، ومنصات التواصل الاجتماعي، ما يطرح تساؤلات ملحّة: هل ما نشهده صحوة دينية طبيعية؟ أم مسار موجه يخدم أجندات غير مرئية؟
من المعروف أن الدين عنصر مركزي في هوية المجتمع الكوردي، وله دور روحي وثقافي لا يمكن إنكاره. لكن حين يبدأ هذا الدور بالتحوّل إلى أداة توجيه سياسي أو وسيلة لاختراق الفضاء العام، يصبح من الضروري التوقف عند أبعاده.
الدين، بطبيعته، يخاطب الفرد وضميره، بينما تتطلب إدارة الأوطان آليات مدنية ومؤسساتية تراعي التعدّد والاختلاف.
وجزء من هذا التوجه الديني قد يكون ردّ فعل على الفراغ السياسي، والضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها المجتمع الكوردي، حيث يجد البعض في الدين ملاذًا نفسيًا أو وسيلة لإعادة تثبيت الهوية. لكن المقلق هو أن بعض هذه النشاطات تتمتع بتنظيم عالٍ ودعم لوجستي، ما يشير إلى تدخلات مقصودة تهدف إلى إعادة تشكيل وعي ديني يخدم أجندات لا ترتبط بالخصوصية الثقافية والتاريخية الكوردية.
المجتمع الكوردي، بطبيعته، معروف بتعدديته الدينية وميله إلى الاعتدال والانفتاح، ما يجعل من بروز تيارات دينية متشددة أو دخيلة مسألة تستدعي الحذر.
هذه التحوّلات قد تكون نتيجة لاختراقات أيديولوجية منظمة، أو مخططات تهدف إلى تمييع الهوية القومية لصالح مشاريع دينية عابرة للانتماء الكوردي.
ولا يمكن فصل هذا المشهد عن دور بعض الأنظمة الإقليمية، خصوصًا تركيا وإيران، حيث تعمل كل منهما على تصدير نماذج دينية تخدم مشاريعها التوسعية: أنقرة تروّج للتيارات السلفية والإخوانية لمواجهة النزعات القومية الكوردية، بينما تسعى طهران إلى توسيع نفوذها المذهبي في المناطق الكوردية التي تستطيع الوصول إليها. وكلا النموذجين لا يخدمان مصالح المجتمع الكوردي ولا طموحاته في التحرّر وبناء الذات.
أمام هذا الواقع، تبرز الحاجة إلى خطاب وطني عقلاني يوازن بين احترام الدين كقيمة إنسانية، وبين ضرورة حماية الفضاء العام من التوظيف الأيديولوجي.
فالدين يجب أن يكون عامل تماسك، لا أداة للانقسام. والمجتمع لا ينهض إلا حين تُرسم بوضوح حدود ما هو ديني وما هو سياسي، ويُصان التعدد كمصدر قوة لا كعبء.
ختامًا، إن حماية الهوية الكوردية من محاولات إعادة تشكيلها من الخارج تتطلب وعيًا جمعيًا وقيادة تستند إلى مشروع وطني جامع، يرى في الدين بُعدًا روحيًا لا وسيلة للهيمنة، ويؤمن أن الوطن للجميع، كما أن الدين لله.
نؤكد أن هذه الكتابة ليست تشكيكًا في النوايا، بل محاولة لفهم الواقع كي لا نفقد البوصلة؛ فما نكتبه ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة لحماية الهوية من التآكل الصامت.