بقلم: د. رضوان باديني
في خضم العواصف التي لا تزال تعصف بسوريا شعبًا وجغرافيا، يبرز من حينٍ لآخر صوتٌ عاقل، يحاول بلورة مخرجٍ وطني جامع من المأساة التي دخلت عقدها الثاني. من بين هذه المبادرات الجديرة بالتوقف عندها، يبرز نداء “ميثاق لسورية الجديدة” الذي صاغه الأستاذ محمد ياسين نجار بروح مسؤولة، ونفسٍ وطنيٍّ نزيه، وباجتهاد واضح في لملمة الجراح السورية من كل الجهات.
لقد قرأنا هذا النداء بعينٍ منفتحة، وعقلٍ نقدي يسعى إلى البناء لا الهدم، وإلى الشراكة لا الإقصاء. وهو نداء يستحق التقدير، لا سيما من حيث سعيه الجاد لإرساء دعائم عقد اجتماعي جديد، يتجاوز ميراث الاستبداد والطائفية والعنف، ويؤسس لسوريا مدنية حديثة، تستند إلى مؤسسات وكفاءات وعدالة انتقالية. كما لا بد من الإشادة بأسلوب الأستاذ النجار الذي زاوج فيه بين اللغة الأخلاقية والطرح السياسي، واضعًا نفسه بصدق في موقع الباحث عن حلّ لا الوصيّ على الحلول.
ولكن، وكما تُبنى الدول بالتفاهم لا بالمجاملات، فإن هذا الميثاق، على أهميته، يظل بحاجة ماسّة إلى مراجعة نقدية صريحة بشأن رؤيته لمستقبل العلاقة بين مكونات الشعب السوري، وعلى وجه الخصوص القضية الكردية التي كانت وما تزال في قلب المسألة السورية.
أولًا: غياب الاعتراف بحق تقرير المصير
إن غياب أي ذكر صريح للشعب الكردي بوصفه قومية أصيلة في سوريا هو تقصير مؤسف، لا ينسجم مع مبادئ العدالة أو مع طموحات صياغة عقد اجتماعي جامع. كما أن طرح “اللامركزية الإدارية” كبديل وحيد، ورفض الفيدرالية بوصفها “مشروعًا غير واقعيًا”، يشي بخوف غير مبرّر من نماذج الحكم اللامركزي، التي أثبتت في العديد من الدول متعددة القوميات (كالعراق، وألمانيا، والهند) قدرتها على ضمان الاستقرار، والتعايش، والتنمية.
إن الفيدرالية ليست تقسيماً، بل صيغة دستورية مرنة، تتيح للشعوب إدارة شؤونها الثقافية والسياسية والاقتصادية ضمن كيان وطني مشترك. إنكار هذا الحق تحت ذرائع “الوحدة الوطنية” يُعيدنا، عن قصد أو غير قصد، إلى المنطق المركزي ذاته الذي حكم سوريا منذ الاستقلال، وأسهم في تفجير الأزمة.
ثانيًا: تجريد “قسد” من بعدها السياسي
في القسم الذي تناول “ملف قسد”، يغيب الاعتراف بأن “قوات سوريا الديمقراطية” والإدارة الذاتية ليستا مجرد “أدوات أمنية” أو “قوة أمر واقع”، بل تمثلان نتاجًا سياسياً واجتماعياً لتراكمات نضالية، وتعبيراً عن إرادة شعبية كردية ومجتمعية أوسع، لم تجد نفسها في المركز السوري منذ تأسيس الدولة.
النقاش بشأن مستقبل “قسد” يجب ألا يُختزل في معادلة أمنية أو شروط تفاوض، بل ينبغي أن يُبنى على حوار نديّ، صريح، وبرعاية أممية إن لزم الأمر، يعترف بالوقائع ولا يتهرب منها، ويضمن الشراكة السياسية الحقيقية للكرد وباقي المكونات في بناء سوريا المستقبل.
ثالثًا: المواطنة لا تُبنى بإنكار الهويات
إن سرد المبادئ السامية عن “دولة لجميع مواطنيها”، و”تجريم الطائفية”، و”فصل السلطات”، يبقى ناقصاً إن لم يُرفق باعتراف صريح بتعدد القوميات واللغات والهويات الثقافية في سوريا. الحديث عن “وحدة الأرض والشعب والهوية” بلغة الميثاق كما وردت، يُعيد إنتاج النزعة الانصهارية، ويقفز فوق الواقع التعددي الذي هو الثروة الحقيقية لسوريا إن أُحسن توظيفه.
رابعًا: عقد اجتماعي على قاعدة المساواة بين الشعوب
ما تحتاجه سوريا الجديدة ليس فقط وثيقة نوايا، بل عقدًا سياسيًا واضحًا، يُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين المركز والأطراف، وبين الشعوب التي تكوّن النسيج السوري. هذا العقد لا يكون وطنيًا ما لم يقم على المساواة الفعلية بين العرب والكرد والسريان والآشوريين والدروز والتركمان وغيرهم، وعلى الاعتراف بحق كل شعب في إدارة ذاته ضمن كيان مشترك قائم على الفدرالية الطوعية، لا المركزية الفوقية.
وفي الختام أقول: الاعتراف لا الإقصاء أساس الشراكة.
إننا، إذ نثمّن مبادرة الأستاذ محمد ياسين نجار، ونحيّي حرصه على تقديم رؤية متقدمة لسوريا المستقبل، نؤكد أن أي ميثاق جديد لن يكون عادلًا أو جامعًا ما لم يتضمن الاعتراف الصريح بالشعب الكردي، وحقه في تقرير مصيره ضمن نظام فدرالي ديمقراطي، قائم على التوازن، والشراكة، والاحترام المتبادل.
فسوريا الغد لا تبنى على أنقاض الاعترافات، بل على أساسها.
