فرهاد حبش
تسعى القوى المسيطرة في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، وفي مقدمتها هيئة تحرير الشام بزعامة أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع)، إلى فرض نموذج حكمٍ جديد يختزل الدولة في سلطةٍ عسكرية دينية، شبيهة بالنظام الذي أفرزته طالبان في أفغانستان.
لكن ما يحاول الجولاني وسلطته ترسيخه اليوم في سوريا، كما طبّقه في إدلب، لم يعد يقتصر على إدارة منطقة محدودة، بل تحوّل إلى مشروعٍ سياسي أوسع يسعى لأن يكون نموذجًا بديلاً عن نظام دمشق السابق، وربما نواةً لما يُسمّى “سوريا الجديدة” في حال تفكك السلطة المركزية.
إنه مشروعٌ يستعير ملامح الإمارة الطالبانية، لكن بلبوسٍ محلي، تحت عناوين مثل الحكم الإسلامي الرشيد والاستقرار، بينما يقوم في جوهره على القوة الأمنية والهيمنة العقائدية واحتكار القرار.
الجولاني، الذي بدأ طريقه في صفوف القاعدة، لم يعد يظهر كقائد فصيلٍ مسلح، بل كحاكمٍ وصاحب مشروعٍ سياسي فعلي يسعى لبناء نظام إدارةٍ يمتد نفوذه من المؤسسات الحكومية إلى المدنية، ومن الحياة الاقتصادية إلى الاجتماعية، مستخدمًا حكومة الإنقاذ واجهةً سياسيةً لسلطته.
هذه الحكومة لا تمثل تعدديةً أو استقلاليةً حقيقية، بل تعمل تحت إشرافه المباشر، تمامًا كما فعلت طالبان حين أعادت صياغة مؤسسات الدولة الأفغانية وفق منطق الولاء لا الكفاءة.
ورغم محاولاته لتقديم نفسه كشريكٍ يمكن التعويل عليه في محاربة الإرهاب وضبط الشمال السوري، فإن ممارسات سلطته تُظهر أنه يكرر النمط ذاته الذي حوّل مناطق عدة في العالم إلى إماراتٍ مغلقة تحكمها العقيدة والسلاح.
يحاول الجولاني اليوم أن يملأ فراغ الدولة المنهارة بخطابٍ مزدوج:
أمام الداخل يتحدث عن مجتمعٍ مسلمٍ منضبط، وأمام الخارج يقدّم نفسه كـ قوة اعتدالٍ محلية يمكن أن تضمن الاستقرار وتمنع الفوضى.
لكن الحقيقة أن ما يجري في سوريا هو إعادة إنتاجٍ لسلطةٍ عقائدية تريد فرض رؤيتها على مجتمعٍ متنوعٍ قوميًا ودينيًا، لا يمكن أن يُختزل في لونٍ واحد أو فكرٍ واحد.
إن التجربة السورية، بكل تعقيداتها الجغرافية والسياسية والاجتماعية، تختلف جذريًا عن الحالة الأفغانية. ففي سوريا لا يوجد نسيجٌ قبلي مغلق أو فراغٌ سياسي شامل يسمح بقيام سلطةٍ أحادية بهذا الشكل، كما أن تعدد القوى الإقليمية والدولية يجعل من المستحيل قيام إمارةٍ دينية في منطقة الشرق الأوسط المليئة بالصراعات الطائفية والدينية.
ثم إن المجتمع السوري، رغم ما عاناه من الحرب والانقسام، لا يزال يحمل إرثًا مدنيًا وثقافيًا عصيًّا على الاختزال، ويملك ذاكرةً مريرة من حكم الاستبداد تجعله يرفض استبدال نظامٍ قمعي بآخر يرتدي عباءة الدين.
إن الرهان على تحويل سوريا إلى نسخةٍ من أفغانستان هو رهانٌ على الوهم، فلا الظروف الدولية ولا التوازنات الداخلية تسمح بقيام سلطةٍ على النمط الطالباني، ولا يمكن لأي قوة، مهما امتلكت من نفوذٍ عسكري، أن تحتكر المشهد إلى الأبد في ظل وجود قوى إقليمية ودولية تسعى إلى جعل سوريا خالية من فكر الإخوان المسلمين والأفكار التي تمثل العقيدة الإسلامية المتشددة.
إن المجتمع السوري اليوم أكثر وعيًا وإدراكًا لما يجري حوله، ولم يعد يقبل بالعيش تحت سلطةٍ تفرض عليه أنماط السلوك والاعتقاد كما تشاء تحت شعارات “الإنقاذ” أو “الشرعية الإسلامية”.
سوريا لن تكون أفغانستان، لأن شعبها لا يريد أن يعيش في إمارةٍ دينية مغلقة، بل في دولةٍ مدنيةٍ عادلة تحترم تنوعه القومي والديني والسياسي.
وإذا كانت بعض القوى تحاول أن تبني مشروعها على أنقاض الدولة السورية، فإن ما سيبقى في النهاية هو إرادة السوريين الحرة، التي ستسقط كل أشكال الوصاية، سواء كانت عسكرية أو دينية أو طائفية، وتعيد بناء وطنٍ لا مكان فيه إلا للمواطنة والحرية والكرامة.
