بقلم : عبدالكريم عمي – عضو المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكوردي في سوريا (الپارتي)
منذ انطلاق الكفاح المسلح لحزب العمال الكردستاني (PKK) في أوائل الثمانينيات، تحوّل الصراع الكوردي –التركي إلى أزمة مزمنة، عصيّة على الحلول السطحية، وجذورها أعمق من أن تُختزل في مجرد قضية أمنية أو تمرّد مسلح. إنها أزمة دولة تأسست على مركزية قومية صارمة، وأهملت الشعب الكوردي الذي يشكّل ما يزيد عن 30% من سكان تركيا، وأنكرت وجوده دستورياً وثقافياً وسياسياً.
رغم تعدد محاولات التسوية، لم تُفضِ أي مبادرة حتى اليوم إلى حل دائم. ولعل أبرز تلك المحاولات كانت مفاوضات 2013–2015، حين دخل الطرفان في مسار تفاوضي مباشر، رافقه وقف نسبي لإطلاق النار، وخطاب سياسي أكثر انفتاحًا. لكن سرعان ما سقطت هذه المبادرة بفعل الحسابات الانتخابية للرئيس رجب طيب أردوغان، الذي وظف ملف السلام لكسب تأييد الشارع الكردي، ثم انقلب عليه مع تراجع شعبيته في الداخل التركي.
تكمن جذور فشل كل مبادرات السلام السابقة في غياب ضمانات دستورية وسياسية حقيقية، واستمرار العقلية الأمنية للدولة التركية، التي ترى في كل مكسب كوردي خطرًا استراتيجيًا. لا تزال أنقرة تعتبر القضية الكوردية مشكلة أمنية وليست قضية حقوق قومية، وترفض أي مقاربة تعترف بالشعب الكوردي كشريك في الهوية الوطنية.
في المقابل، فإن حزب العمال الكردستاني نفسه لم يُطوّر حتى الآن خطابًا مرنًا كافيًا لمواكبة التحولات الدولية والإقليمية. تصنيفه من قِبل عدد كبير من الدول كـ”تنظيم إرهابي” جعله في موقع دفاعي دائم، وأضعف من قدرته على نسج تحالفات أو لعب دور تفاوضي علني. إن المراوحة في خطاب الكفاح المسلح دون أفق سياسي واضح، تُضعف القضية الكوردية وتُبقيها رهينة المقاربات الأمنية.
رغبة الكورد في تركيا بالسلام ليست موضع شك. هم شعب أثبت، عبر تاريخه الطويل، صبرًا نضاليًا كبيرًا، وتطلعًا واضحًا نحو الاعتراف والمواطنة المتساوية. لكن هذه الرغبة، ما لم تُترجم إلى قوة سياسية وتنظيمية قادرة على التأثير في الداخل التركي، وما لم تحظَ بدعم دولي ضامن، ستبقى مجرد أمنية معلّقة.
اليوم، ومع تصاعد الضغوط الأوروبية والدولية على أنقرة بشأن ملف الحريات وحقوق الإنسان، تُطرح من جديد فرص لإعادة إحياء مبادرات السلام. لكن أي مسار تفاوضي جديد سيكون مهددًا إن لم تقم على أساس معادلة جديدة واضحة المعالم
واعتراف دستوري بالشعب الكوردي وحقوقه الثقافية والسياسية وإنهاء عسكرة الملف الكوردي داخل تركيا وفتح المجال أمام الأحزاب الكوردية القانونية للمشاركة السياسية دون تضييق.
تحوّل حزب العمال الكردستاني نحو صيغة سياسية مدنية أكثر تفاعلاً مع التحولات الدولية.
إن السلام في تركيا لن يكون نتيجة مبادرات إعلامية، ولا نتيجة اتفاقيات غير ناضجة تُوقّع تحت الضغط ثم تُلغى عند أول منعطف انتخابي. السلام في تركيا، إن أُريد له أن يكون حقيقيًا، يجب أن يُبنى على الاعتراف بالشراكة الوطنية الكاملة للكورد ، وعلى تقاطع مصالح داخلي–دولي يضمن استمراره.
إن الشعب الكوردي لم يعد مستعدًا ليكون مجرد وقود في لعبة السياسة التركية. لقد وُعد مرارًا بالسلام، لكنه حُرم من ثمراته في كل مرة. اليوم، باتت مطالب الكورد في تركيا جزءًا من نقاش أوسع حول مستقبل الديمقراطية التركية ذاتها، لا يمكن عزله أو تجاهله.
في الختام حزب العمال الكردستاني والدولة التركية يقفان أمام مفترق طرق تاريخي إما العودة إلى دائرة العنف والاستنزاف المتبادل، أو الدخول في مسار تفاوضي حقيقي يضمن اعترافًا متبادلاً، ويُؤسّس لسلام عادل وشامل.
إن الرغبة في السلام موجودة، لكن تحقيق الطموحات الكوردية في تركيا يتطلب ما هو أكثر من النوايا الطيبة. يتطلب تغييرًا جذريًا في العقيدة السياسية للدولة، ومراجعة شاملة في خطاب وأدوات الحركة الكوردية .
وما لم يتحقق ذلك، ستظل مبادرات السلام مجرّد محطات إعلامية تُستهلك سريعًا في بازار السياسة، بينما يواصل الشعب الكوردي نضاله الطويل على قارعة الوعود.
