فرهاد حبش
مع بداية الأزمة السورية (الثورة السورية)، تدخلت العديد من الدول الإقليمية والدولية في الملف السوري، ولعبت كلٌّ منها دورًا يتوافق مع مصالحها وسعيها إلى توسيع نفوذها، سواء عبر أدواتها العسكرية المتمثلة بالفصائل الموالية لها، أو من خلال أدواتها السياسية والاقتصادية.
وبذلك أصبح الملف السوري من أكثر الملفات حضورًا في الصراعات الإقليمية والدولية، ومن بينها بروز الصراع التركي – الإسرائيلي على النفوذ في سوريا، في معادلةٍ معقدة تشهد تداخلًا وتضاربًا في المصالح الاستراتيجية، سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو حتى الدولي.
قبل سقوط نظام الأسد، كان التنافس أو الصراع التركي – الإسرائيلي يظهر بشكلٍ غير مباشر على النفوذ والسيطرة داخل سوريا، من خلال اختلاف الرؤى والمواقف تجاه دعم الأطراف المحلية. لذلك، لم يكن هذا الصراع واضحًا بشكلٍ مباشر، بل تجلّى في إطارٍ أوسع على مستوى الشرق الأوسط، بين الفكر الإسلامي العثماني الذي تتبناه تركيا والفكر الليبرالي الإسرائيلي الساعي لتوسيع نفوذه في المنطقة.
وقد تجسّد ذلك من خلال دعم تركيا لحركة حماس في عملياتها ضد إسرائيل، في مقابل تحريك إسرائيل لورقة القضية الكوردية بهدف زعزعة الاستقرار داخل تركيا.
كما ساهم العامل الإيراني في زيادة حدة هذا التنافس غير المباشر بين أنقرة وتل أبيب، من خلال تحالفٍ نسبي ومؤقت بين تركيا وإيران في إطار مؤتمرات مثل أستانة التي هدفت إلى إعادة رسم مناطق النفوذ داخل سوريا بما يخدم مصالح الطرفين.
وعلى الرغم من أن هذا التحالف لم يكن استراتيجيًا على المدى البعيد، إلا أنه أثار انزعاج إسرائيل التي رأت فيه خطرًا استراتيجيًا يعزز النفوذ الإيراني في سوريا ويهدد مصالحها الأمنية.
ويُعدّ هذا الصراع غير مباشرٍ داخل سوريا بسبب وجود الفاعل الأمريكي، إذ إن كلًّا من تركيا وإسرائيل يُعتبران حليفين استراتيجيين للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، لذلك، حافظت واشنطن على توازنٍ في القوة (Balance of Power) بين الطرفين، من خلال السماح لتركيا بتنفيذ عملياتها العسكرية ضد الكورد في شمال سوريا (كوردستان سوريا)، وفي المقابل منح إسرائيل دعمًا سياسيًا وأمنيًا غير مباشر لتثبيت سيطرتها على الأراضي المحتلة ومواقع نفوذها داخل سوريا.
غير أن سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 شكّل نقطة تحوّل حاسمة في مسار هذا الصراع، إذ تصاعد التنافس بين أنقرة وتل أبيب بشكلٍ أكثر حدة، نتيجة تدخل إسرائيل في الداخل السوري ودعمها لبعض المكونات المحلية، وخاصة الطائفة الدرزية، ضد سلطة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، الحليف التركي.
وقد أثار هذا الموقف استياء تركيا التي رأت فيه محاولة إسرائيلية لتقويض نفوذها في سوريا وإضعاف حلفائها المحليين، إلى جانب دعم تركيا لفصائل إسلامية متطرفة ترى فيها إسرائيل خطرًا على أمنها وحدودها الجنوبية مع سوريا.
وتأتي ذروة هذا الصراع في ظل الجدل حول شكل الحكم وإدارة الدولة السورية الجديدة؛ إذ تسعى تركيا إلى نظامٍ مركزيٍ قويٍ ذي طابعٍ إسلامي يشبه نموذج حزب العدالة والتنمية في أنقرة، بينما تدفع إسرائيل باتجاه نظامٍ تشاركي يضمن إشراك جميع المكونات، بما فيها الطائفة الدرزية، ضمن إدارةٍ ذاتيةٍ في جنوب سوريا ومنطقة منزوعة السلاح تحت الحماية الإسرائيلية.
وفي المقابل، تشترط تركيا على السلطة الجديدة رفض أي شكلٍ من أشكال الفيدرالية أو اللامركزية السياسية، خصوصًا للكورد، والإبقاء على نظامٍ مركزيٍ ذي هيمنةٍ سنيةٍ واضحة.
يبدو أن الصراع التركي – الإسرائيلي على النفوذ في سوريا دخل مرحلةً جديدة بعد سقوط نظام الأسد، إذ تحوّل من تنافسٍ غير مباشر إلى مواجهةٍ سياسية واستراتيجية أكثر وضوحًا بين الطرفين. فكلٌّ من أنقرة وتل أبيب يسعى لترسيخ نفوذه ضمن خريطة سوريا الجديدة، بما يتناسب مع رؤيته لمستقبل الإقليم ومكانته في معادلة الشرق الأوسط.
ورغم أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تزال تمسك بخيوط التوازن بين الطرفين، إلا أن استمرار التناقض بين المشروعين — التركي ذي الطابع الإسلامي والمركزي، والإسرائيلي القائم على التفتيت والتعدد — يُنذر بأن المرحلة المقبلة ستشهد تصعيدًا أكبر في هذا التنافس، خاصة في ظل غياب تسويةٍ سياسيةٍ شاملةٍ للأزمة السورية.
ومن المرجّح أن يبقى هذا الصراع في إطاره غير المباشر، لكنه سيظل عاملًا حاسمًا في تحديد شكل سوريا المستقبلية وموقع كلٍّ من أنقرة وتل أبيب ضمن النظام الإقليمي الجديد.
