الشرع أمام مرآة سوريا الجديدة

بقلم : حوران حم

 

في فجر يوم غير اعتيادي، خرج الرئيس السوري أحمد الشرع بخطاب أقلّ ما يُقال فيه إنه كان مختلفًا. لم يكن الاختلاف في نبرة الصوت ولا في ترتيب العبارات، بل في ما غاب أكثر مما قيل. للمرة الأولى منذ عقود، يُحذف عن عمد من الخطاب الرسمي توصيف “العربي” للدولة والشعب. لم نسمع “الجمهورية العربية السورية”، ولا حتى “الشعب العربي السوري”، بل حديث مبهم عن “السوريين” و”الوطن السوري”. هذه المفردات التي لطالما كانت بمثابة جدران لغوية تعزل الآخرين، سقطت فجأة، ليبدو أن شيئًا كبيرًا يتغير في دمشق، أو على الأقل يُراد له أن يتغير.

 

الاعتراف بالحكم الذاتي للدروز: لحظة الانعطاف

 

أحدثُ ما جاء في خطاب الشرع هو الإقرار الضمني بحق دروز السويداء بالحكم الذاتي، وهو المطلب الذي كان يُعد قبل سنوات خيانة وطنية وانفصالًا. لكن الأرض تغيّرت، والسياسة أصبحت أكثر تواضعًا أمام الواقع. الاعتراف هذا لا يحمل فقط طابعًا رمزيًا، بل يفتح بوابة لنقاش أشمل: إذا كانت السويداء تستحق حكمًا ذاتيًا، أفلا تستحق كُردستان سوريا بكردها وسريانها وعربها الأمر ذاته؟ وإذا كانت سوريا وطنًا متعدد المكونات، فهل يُبنى على وحدة قسرية أم على شراكة طوعية؟

 

من التهميش إلى الشراكة: القضية الكردية أمام الدولة الجديدة

 

اللافت في خطاب الشرع أنه جاء بعد أسابيع فقط من تجاهله العلني لقائد “قسد” مظلوم عبدي خلال زيارة الوسيط الأميركي توم براك إلى دمشق. تجاهلٌ فسّره كثيرون على أنه استمرار للنهج القديم نفسه: تصغير الكرد وتهميشهم سياسيًا رغم دورهم المركزي في محاربة الإرهاب، وتأسيس نموذج إداري ديمقراطي في كُردستان سوريا.

لكن ماذا بعد الاعتراف بحكم ذاتي للدروز؟ أليس من المنطقي، بل من الضروري، أن يفتح الشرع قنوات تواصل مع الهيئة الكردية المنبثقة عن كونفرانس وحدة الصف ووحدة الموقف والرؤية، الذي عُقد في 26 نيسان 2025، وتمخض عنه وثيقة سياسية واضحة المعالم؟ الكرد اليوم ليسوا مجرد طرف عسكري أو إداري، بل قوة سياسية وشعبية لها مشروع، وشريك لا يمكن تجاوزه في صياغة الدستور، وتحديد شكل الدولة الجديدة.

 

العلويون: من الوصاية إلى الحرية

 

لعل الطائفة العلوية كانت من أكثر المكونات التي دُفعت قسرًا إلى معسكر النظام، وأُلبست عباءة السلطة عنوة. ومع سقوط الأسد ونهاية النظام المركزي القديم، باتت هذه الطائفة أمام لحظة مراجعة عميقة. لم تعد بحاجة لحامٍ سلطوي يحتمي بها، بل إلى ضمانات دستورية تحفظ وجودها وهويتها، وتمنحها الحرية الكاملة في اختيار تمثيلها السياسي والاجتماعي، دون ابتزازٍ أمني أو ابتلاعٍ حزبي.

 

إعادة بناء الجيش والإعلام: لا رايات ولا فتن

 

كل حديث عن دولة مدنية بلا خطوات جادة داخل المؤسسة العسكرية هو ضرب من الخداع. الجيش السوري، إن أراد أن يكون وطنيًا بحق، عليه أن يتجرد من الشعارات الطائفية التي تلوّن صدور بعض أفراده. يجب إزالة كل راية لا تمثل الدولة، وكل عبارة مذهبية تُكتب على الآليات العسكرية، واستبدالها بعقيدة وطنية جامعة لا تخضع لمذهب أو طائفة.

وفي الوقت نفسه، فإن استمرار بعض الإعلاميين في تغذية الفتن الطائفية – من أمثال موسى العمر وهادي العبدالله وجميل الحسن هو بمثابة خنجر في خاصرة الوحدة الوطنية. الإعلام الحر لا يعني إطلاق العنان للعنصرية، بل يتطلب مساءلة كل خطاب يحرض على الكراهية ويمزق النسيج الوطني باسم الثورة أو الهوية.

 

نحو عقد وطني جديد: من المركزية إلى التعددية

 

لقد آن الأوان لصياغة دستور اتحادي مدني تعددي، يعترف بكامل مكونات سوريا، لا كأقليات بل كشركاء. الكرد، الدروز، العلويون، السريان، الإسماعيليون، الأرمن، والآشوريون، يجب أن تُذكر أسماؤهم بوضوح، لا أن تُدمج في صيغ مطاطة.

يجب أن يكفل هذا الدستور الحق في اللغة، والثقافة، والتعليم، والإدارة الذاتية، ضمن دولة لا مركزية، قوية بمؤسساتها، لا بطغيانها، دولة تُبنى لا على الأيديولوجيا بل على الإرادة الحرة لشعبها المتعدد.

 

سوريا التي تستحق أن تكون

 

أحمد الشرع، بخطابه الأخير، وقف أمام مرآة سوريا الجديدة. مرآة لا تعكس أوهام القومية الواحدة، ولا خدعة الدولة المتجانسة. بل تعكس واقعًا جديدًا مفروضًا على الجميع، عنوانه: “إما شراكة حقيقية، أو تفكك محتوم”. قد يكون ما فعله الشرع خطوة متأخرة، لكنها قد تكون الأولى على طريق مختلف كليًا عن المسارات القديمة.